![]() |
الكاتب علي سلامه عضيبات |
في الحي الغربي من سوف، حيث تتعانق طرق القرية الثلاث عند مثلث من اكثر الأماكن حيوية ونشاط، كان يقف بيت علي الحمد البيروني شامخًا كأنّه حارسٌ لذاكرة المكان. لم يكن بيتًا كسائر البيوت؛ فقد احتضن بين جدرانه عيادةً للمرضى، ودكاكين تفتح أبوابها للعابرين، ومخازن غلال تعبق برائحة القمح والشعير، تطل على الشارع الرئيسي الممتد من جرش نحو عجلون وإربد. وكان جزءٌ منه مأوىً لمدرسين جاؤوا من خارج البلدة يحملون العلم بين أيديهم.أو طوافين (حراس الاحراش) وهؤلاء هم من يكونون غالبا من خارج البلدة.
إلى الغرب من الدار، امتدت حديقة غنّاء بأشجار الفاكهة، يطوّقها سور من السرو الأخضر، يهب للمكان روعةً وهيبة. وعلى أطرافه الخارجية، كان "السنسال" الحجري يرسم خطًا صلبًا من الذكريات؛ لا يكاد يخلو شاب أو رجل من أبناء البلدة إلا وقد اتكأ عليه، أو أسند ظهره إليه، ليروي حكاية بطولة، أو يبوح بسرّ حبٍّ عاشه أو ما زال يعيشه، بينما تتسلل إلى أذنه نسائم الماضي.
خلف الشوارع المحيطة بذلك السور، انتثرت بيوت من مختلف عشائر سوف، لتصوغ فسيفساء بشرية دافئة، تتجاور معها دكاكين حملت في ذاكرة الناس عبقًا خاصًا. هناك دكان المرحوم محمود العقيل عضيبات وصحن الرايب الطازج الذي كان يشكل وجبة الغداء عند الاكثرية، وهناك المرحوم عيس المحمد العتوم، صاحب الراديو العتيق، الذي يتابع من خلاله أخبار الدنيا ويرويها بحماسةٍ تجعل السامع يعيش الحدث لحظة بلحظة.
أما فنه في صنع الفلافل، فكان على أصوله، وفي الشتاء كانت "العوامة وكرابيج حلب" التي يقطر منها القطر وتقرمش تحت الأسنان، متعةً لا تضاهيها أفران اليوم مهما بلغت شهرتها. ومن بين هذه الوجوه والدكاكين، نشأت علاقة روحية متينة بين "جماعة السنسلة" وجيرانهم، علاقة صافية نفتقدها اليوم بين الجدران الصامتة.
كانت الساحة أمام البيت ملعبًا مفتوحًا، يصدح بضحكات الصغار وهم يلعبون "السليمة" و"الدواحل" يتابعهم كبار السن عن قرب وهم يبدون ملاحظاتهم. واما في دكان المرحوم محمود العبدالرحمن العتوم فكان كبار السن يلعبون لعبة الورق (الشده) خاصة الباصره وما كان يرافقها من نكات (ومعايرة ) تدلل على العلاقة الاخوية التي تربط بينهم وعندما يكسو الثلج الأرض برداء أبيض، كانت الفرق تتشكل لمعركة كرات الثلج، يعود بعدها الفتية وأصابعهم جامدة من شدة البرد، فتسرع الأمهات بتدفئة الماء ليغمسوا فيه أيديهم، ويذوب البرد مع دفء الحنان.
لكن الزمن دار، واليوم صار المكان تحت سيطرة من يعرقل أحيانًا مرورك، وربما يمنعك حسب مزاجه، وتكاثرت الشجارات وضوضاء أبواق السيارات. مشهد يوجع القلب، إذ تسللت الحداثة لتأخذ شيئًا من جماله، وتخطف من بين أيدينا بعض ذكرياته.
لا أهاجم أحدًا، ولا أسعى لإيقاف عجلة الزمن، لكنني أرجو أن يبقى في قلوبنا ذلك الودّ الصافي، وأن يعرف شباب اليوم كيف كان آباؤهم وأجدادهم أوفى لبعضهم من إخوة الدم، وأشدّ نخوةً في السوفانية الأصيلة التي ميّزت هذا المكان.
بقلم: علي عضيبات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اخي الزائر :-اذا استحسنت الموضوع وأعجبك؟! يمكنك دعم الموقع بالمساهمة في نشره او اكتب تعليق على الموضوع وسيتم نشره بعد المراجعة !