------ اقسام الموقع ------

اخر الاخبار

آخر الأخبار

الجمعة، مارس 15، 2024

رحلة الى الحارات المنسية /المَنُوحَة روح التكافل




يلُفُّ الفقر جُلَّ اهل الحارات ، و قِلَّة الحيلة سمة غالبة على اهل الحارات ، وكان كثير من اهل الحارات يملكون اراضٍ وشلايا من الأغنام او الماعز ، وبالمقابل كان هناك من لا يملك الا بيتا يأويه ويستر عوزه وفقره ، فكانوا اغنياء من التعفّف . ورغم هذا وذاك الا ان اهل الحارات جميعهم لم يعانوا جوعا ، فكان التعاضد والتكافل يسد الجوع والعوز . بسبب ما كان يسود الحارات من عادات طيبة .
ابو عوض جار ابو جابر لا يملك أغناما… و يشكو الفقر . يذهب ابو جابر إليه ، ويقول له : قوم تعال معاي خيوه .
ابو عوض : وين بدك بي خيوه ؟!
ابو جابر : بس انت قوم وبعدين إبتعرف .
يرافق ابو عوض ابا جابر الى صيرة الغنم بحوش دار ابي جابر ، فيدخلا للصيرة التي تربض بها شلية الغنم .
ابو جابر : هاي الغنم قدامك ، عليك جيرة الله لا تستحي ، نَقّي عنزتين لعيلتك منوحة…… حليبهن ليك وانتاجهن ليك لمدة سنتين وخليهن يسرحِن مع الغنم…
ابو عوض : لويش إتغلّب حالك خيوه . ترا وضعي كويس وإمدبر حالي .
ابو جابر : خيوه هاي الغنم من خير الله ، وعليك جيرة الله ما تطلع من هالصيرة غير وانت خازّ اللي يعجبك .
ابو عوض : بدي هاي القرعا ام أذون وهذيك القطما ام اقرون .
ابو جابر : حلال زلال ومبروكات عليك وربي يطرح بيهن البركة وتكون خِلفتهن إتوام .
ينادي ابو جابر على الراعي هويشان فيقول له : شايف هظولاك العنزتين .
هويشان : آه شايفهن . شو مالهن ؟
ابو جابر : يابه هظول لابو عوض من اليوم ، خلّيهن يسرحن مع الغنم و دير بالك عليهن . وكل مسويات لما ترجع للحارة تِعرِبهن وإتفوتهِن على حوش دار عمك أبو عوض ، تراهن هظول إله إشتراهِن مني .
أبو جابر هو إبن جابر ذلك الشاب - جابر - الذي قطع النهر قادما من زرعين بفلسطين ليحضر عرسا في بلدة سوف في شمال الاردن ، حيث لا حدود ولا معبر ، ولا هويات او جوازات سفر ، ليشارك بأحد الأعراس . ومعه آمال وتطلعات تفوق عمره بأن يعمل في المكان الذي وصل اليه ليبدأ فيه حياته وليُكّوَّن نفسه .
تعرّف جابر على خليل المحمد ذلك الرجل الطيب الذي يمتلك ارضا واسعة بحاجة الى من يساعده في زراعتها .
إستقبله خليل المحمد خير إستقبال واكرم قدومه ووثق به وقال له : شو رايك عمّوه إتظل عندي وتشتغل بارضي ومش راح اقصِّر معاك ، وكروتك اللي بتطلبها بتوخذها ؟
جابر : اني إلي الشرف اشتغل عندك يا عمي .
خليل : وهاي الدار دارك أُسكُن فيها طول ما انت بتشتغل عندي .
عمل الشاب جابر في فلاحة ارض خليل وزراعتها ، فاحبه خليل وأحب صدقه وأمانته . وقامت الحرب بين الحلفاء ودول المحور ، ودخلت عصابات الهاجانا فلسطين . فلم يجد جابر امامه خيارا الا البقاء شرق النهر وعدم العودة لبلده غرب النهر .
في " سوفَ " تعرف على ابن بورين عواد العودة ابو علي ، فوثق به ابو علي وزوَّجه من إبنته ، فأنجبت له عبدالكريم ومحمد .
داهم الموت جابر بعمر الثلاثين ، وترك خلفه عائلة من زوجة وإبنين هما عبدالكريم ومحمد .
وَجَد محمد بأنه اصبح لزاما عليه ان يحِلَّ محلَّ والده في إعاشة عائلة لا مورد لها ، ولا اراضٍ يعتاشون منها ، فالتحق شقيقه الاكبر عبدالكريم بالخدمة العسكرية ، أما هو فعمل عاملَ زراعة بكروةٍ بالكاد تُغطّي مصاريف عائلته ، فكَّدَّ وتعب وشقي . ومن كروته اشترى عددا من الماعز ، ورعاها . وبعد وفاة أمه إستقل بنفسه وسكن الجبل مع ماعِزه بعد ان هَجَر البشر . فطَوّع الشجر والحجر ، وتآخي مع وحوش الغابة ، وزرع ارضا بعد موافقة مالكها بالقمح والشعير والقطانة ، وزرعها بالخُضرة من البندورة والقثاء والخيار والباميا ، فكان يبيع من نتاجها ، ويتصدق بالكثير .فبارك الله بزرعه وبغنمه .
كبر محمد وكبر قطيع غنمه ، يبيع ذكورها ويترك اناثيها ، اللاتي بارك الله بها حتى صارت شَليَّةً كبيرةً . تزوّج واحدة من بنات اخواله ، فشاركته مُرَّ الحياة وحلوها ، وبنا لنفسه بيتا من الحجارة والطين وترك تلك المغارة لماعزه .
ماتت زوجته ام جابر . فتزوج من اخرى فحملت معه جزءا كبيرا من الحمل في رعاية الاغنام والزراعة وتربية الابناء ، فأرزقها الله باولاد وبنات .
توسع ابو جابر في العمل فزادت غنمه التي لم يبخل يوما في ان يخرج منها المنايح للمحتاجين ، ويطعم من نتاجها الفقراء والمساكين . واشترى نصف الارض التي عمل بها ، واشترى غيرها من قطع الاراضي القريبة ، وصار من أكبر المَلّاكين ، ولم يُثنه ذلك على الإستمرار بالزراعة ورعاية الماعز التي كانت سترا له ومصدر رزق مبارك ، وربّى الخيول وأعتنى بها فأحبها وأحبته . وبنى دورا لاولاده على قمة الجبل الذي أصبح يُسمى بإسمه - جبل ابو جابر - فاضحت وكانها منارة من المنارات التي يُستَدَلُّ بها .
مَرِض ابو جابر ، لكن المرض لم يأخذ منه ، ومن عزيمته على ان يبقى منتجا ، منتميا للارض ، فالارض بنظره كالعرض ، فلم يتنازل عن ذرة منها رغم كل المغريات ، وارتفاع ثمنها ، كما لم يفرِّط بغنمه التي كانت مصدر رزقه الحلال والمبارك .
لم يمهله المرض طويلا فمات ابو جابر رحمه الله ، لكن ذكراه لم تمت فما زالت باقية ليومنا هذا في عقول من عرفوه وخالطوه ، ولا زال جبل ابو جابر شامخا مفعما بالحياة ، يقف شاهدا على شُموخِ رجلٍ بنى نفسه بنفسه بعد رضا الله ، ولا زالت حجارة بيته القديم من الحجارة والطين شاهدا على أن الارادة تعمل المعجزات ، وكل اثر من آثار يديه واقدامه تشهد له بحبه وإنتمائه لارضه وشاهدة ان عظيما - والغظمة لله - قد طَوَّعها لتكون معه لا عليه .
وجاء من بعده خَلَفٌ ساروا على نهجه ، خَلَفٌ تربى على العطاء ، ديدنه الكرم والشهامة والنخوة . وخَلَفٌ منتمٍ للارض لم يفكر يوما ان يتنازل عن ذرة من ترابها حتى لو وزِّنَت بالذهب والماس .
المصدر : الكاتب خالد صالح قوقزه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخي الزائر :-اذا استحسنت الموضوع وأعجبك؟! يمكنك دعم الموقع بالمساهمة في نشره او اكتب تعليق على الموضوع وسيتم نشره بعد المراجعة !